الخط العربي .. فن عالمي

الخط العربي .. فن عالمي

Toughra - Turquie - 19ème siècle

الخط هو فن الكتابة الجميلة التي تزين النص وتضيف إليه قيمة تأويلية مميزة. ولقد كان للقرآن الكريم دور أساسي، بل وكل الفضل، في تطور الكتابة العربية، ومن تم فن الخط العربي. كما أن كتابة القرآن بهذا الخط أدت إلى إعلاء شأن هذا الأخير وإجلاله.

Coran - 18ème siècle
Calligraphie et architecture Médersa Attarine - Fès Maroc

سرعان ما انتشر وتطور استعمال الخط العربي في العالم العربي والإسلامي ليشمل بذلك الدواوين والمعمار والخزف، وأخذ بذلك أهمية متزايدة وصلت إلى درجة الرقي إلى جانب فن الزخرفة ، حتى أصبح استعمال كلاهما شائعا سواء في الكتب أوفي البنايات، حيث التناغم الموسيقي والهندسي لهذين الفنين يثير كل الإعجاب، فصارا رمزا للحضارة العربية والإسلامية.

Coupole de la Mosquée "Selimiye" à Edirne, Turquie (16ème siècle)
Calligraphie de Hassan Musa
Calligarphie et enluminure Ghani Alani

الإسلام والفن

إن النظرية التي تقول أن تطور فن الخط العربي والزخرفة راجع إلى كون الإسلام يحرم تجسيد وتصوير الخالق أو المخلوق، هي نظرية قابلة للنقاش… فالتحريم لم يستطع قط على مدى التاريخ أن يمنع الإنسان من التعبير، وكذلك إن هذا الفن – أي الخط – استمد عظمته عند شعب يمجد الكلمة، وبالتالي يمكننا تفسير هذا التطور تاريخيا وبيئيا، لأن العرب شعب ذو ثقافة شفوية، وهو أيضا شعب عاش مع الشعر، الفن المفضل لديه، حيث كانت الكلمة تجسم وتمثل الصورة على شكل تناغم موسيقي مرتبط بالمعاني، وفيما بعد، عندما أخذت الكتابة مكانتها في هذه الحضارة، كانت الكلمة المرسومة والمخطوطة هي الامتداد الطبيعي لتثبيت هذا الفن لدى هذه الحضارة.

Versets du Coran en styles Muhaqaq et Thuluth

تأسست عدة مدارس لفن الخط، كل واحدة منها تميزت بأسلوبها الخاص، مستمدة غناها من الفنون المحلية، وبالتالي ظهرت المدرسة الفارسية والتركية والأندلسية المغربية…إلخ، الشيء الذي لم يمنع أيضا البعض منها بأن يتأثر بالأساليب التي ظهرت خلال العصر الذهبي الذي عرفته الحضارة الإسلامية بين القرنين الثاني والسابع الهجري، حيث نبوغ إحدى أكبر المدارس في هذا المجال، وهي مدرسة بغداد. هذه المدرسة تميزت عن سواها بفضل ثلاثة أساتذة عظام أئمة في الخط، اشتغل كل واحد منهم على الحرف كمادة أولية، تاركا فيما بعد بصمته الخالدة سواء في المجال الفني أوالهندسي أو الفلسفي.

Calligraphie, mesures et proportions

أول هؤلاء الأساتذة هو ابن مقلة (272 – 328 هـ )، مهندس الخط العربي، الذي جعل من هذا الفن علما مضبوطا، حيث وضع القواعد الأساسية له، وقاس أبعاده، وأوضاعه. وقد تم تطبيق هذا المبدأ، الذي يعتمد على الجمع بين ما هو جميل ونافع، في جميع الفنون الأخرى. ولقد استفاد ابن مقلة من منصبه كوزير، لإدخال فن الخط على شكل كتابة وزارية في دواوين الدولة. بعد حوالي قرن من الزمن، أعطي بعد جديد للحرف من طرف خطاط كبير آخر من مدرسة بغداد، وهو علي بن هلال البغدادي المعروف ب ابن البواب (ق. 5 هـ)، حيث كان يرى الحرف على هيئة إنسان برأس وجسد و أعضاء. ثم تبعهما فيما بعد أستاذ كبير ثالث، من نفس المدرسة، وهو ياقوت المستعصمي (ق. 7 هـ) الذي أعطى للحرف بعدا روحيا، حتى صار هذا الأخير عبارة عن شكل هندسي حي.

الخطوط العربية

هناك أنواع كثيرة و مختلفة من الخطوط أوالأقلام العربية، تنوعت بتنوع المناطق والحقب والخطاطين، وأيضا بتنوع الوثائق وحسب الحاجات والمطالب: فهذا الخط لكتابة القرآن الكريم، أو تفسيره، وهذا للشعر، والآخر للدواوين…إلخ.

كل هذه الخطوط تعود جميعها إلى رافدين اثنين، يتصف أحدهما بالجفاف لكونه مبسوطا أو مربعا أو مزوى ، وهو الذي أطلق عليه ‘ الخط الكوفي ‘. ويتصف الثاني ـ من ناحية أخرى ـ باللين حيث جاء مقورا أو مدورا أو مقوسا، وهو الذي عرف باسم ‘ الخط اللين أو النسخ’.

ظهر الأول مع ظهور الإسلام، إلا أن شكله كان غير منتظم، وبفضل إبداع الخطاطين تطور وتحسن حتى أصبح خطا منسجما وجميلا. وقد تفرع من هذا الخط أنواع عديدة من الخطوط جمعت جميعها بين الجفاف والليونة، كالكوفي المورق، والمزهر والمضفر والقرمطي.

إلى جانب الخط الكوفي، تميز الخط اللين – كما يشير إليه اسمه – بليونة خطوطه، فكانت الحركة والدينامكية من العوامل الأساسية التي أدت إلى ظهور أنواع جديدة من الخطوط، كالنسخ والثلث والديواني والفارسي .

Versets du Coran en caractère coufique - Iran - 11ème siècle
Calligraphie en style Nasta'liq - 1575
Toughra du Sultan ottoman Selim III Calligraphie en style Diwani 16ème siècle

أما في أقصى البلاد الإسلامية، فقد استوحى الأندلسيون والمغاربة من الخط الكوفي القديم خطوطا ذات مرونة عالية وغير مقيدة بقواعد صارمة، يمكن تأملها اليوم في عديد من المخطوطات والكتب وكذلك في العمران، وقد عرف هذا الإبداع بالخط الأندلسي المغربي.

وهناك خط شبيه بهذا الأخير يختلف عنه بعض الشيء في كثافة حروفه وتراكمها، ويعرف بالخط السوداني، وقد شاع استخدامه في الحزام الإسلامي الممتد من موريتانيا حتى السودان وكذلك في البلاد التي تمتد حتى جنوب نيجيريا.

من جانبها تميزت المدرسة الفارسية بظهور ثلاثة أشكال رئيسية: التعليق، النستعليق والشيكستي. وكان للتركية أنواع عديدة، من بينها: الديواني والرقعة. أما في الهند فقد ظهر خط نسخ ثانوي عرف باسم’بهاري ‘ .
ومع أن مسلمي الصين قد تبنوا الخطوط التي كانت شائعة في أفغانستان إلا أنهم قد أوجدوا مع ذلك لأنفسهم صورة خاصة من الخط العربي عرفت بالخط الصيني. 

جدير بالذكر أن نلاحظ أنه في هذا المجال، وخلافا للغربيين، لم يحصر الشرقيون علومهم داخل خانات ضيقة، فلم يعطوا لهذا الفن نعتا أو وصفا، كمثلا الفن الكلاسيكي، الفن المعاصر، الفن المستقبلي…إلخ، فالزمن لم يؤخذ قط بعين الاعتبار لنعت هذا الفن أو ذاك بنعت معين، وفي هذا السياق، فالخط الكوفي البسيط المبكر مثلا ، وهو أقدم الخطوط العربية، كان الأكثر تأقلما مع التكنولوجيا الحديثة، وقد اعتبره البعض عند اكتشافهم له فنا رائدا. 

Manuscit Style Andalou-maghrébin Maroc
Versets du Coran en caractère coufique sur parchemin teint en bleu - 10ème siècle.

تأثير هذا الفن على الغرب

يعترف الغرب اليوم بالتأثير الذي مارسته عليه الحضارة الإسلامية ، بما في ذلك الفنون. في هذا السياق، يقول رئيس ومدير متحف اللوفر “هنري لويرت” :” إن تأثير الفنون الإسلامية على ثقافتنا عميق ومستمر”. وقد تأثر بالفن الإسلامي كثير من رواد الحركة الفنية المعاصرة مثل “ماتيس” و”بول كيلي” اللذان عاشا فترة طويلة في البلدان العربية يدرسان تراثها الفني، كما زار شمال إفريقيا كل من “مونيه” و”ديلاكروا” و”كاندنسكي” وغيرهم.. وقد انبهروا بالفن الإسلامي وتأثروا به. وقد ألهم فن الخط العربي وهو جزء لا يتجزأ من الفنون الإسلامية، الكثير من الفنانين الغربيين خصوصا خلال القرن العشرين الميلادي كآلشينسكي، و”دوترمونت” و”ميشو” على سبيل المثال، حيث شكل هذا الفن بالنسبة لهم مدخلا جديدا لخلق أشكال جديدة من الفنون. فكاندينسكي في بحوثه، يظهر أنه يجسد استمرارية فكر كبار الخطاطين الشرقيين الذين سبقوه من قبل. كما يعترف “ماتيس” بالتأثير الذي مارسه الفن العربي على خطوطه وألوانه. يقول في هذا الإطار:” إن الوحي أتاني من الشرق وبالتحديد من الإسلام. هذا الفن أثر في كثيرا، خصوصا أثناء معرض ميونيخ الرائع…لأن هذا الفن يمنح فضاءا أوسعا، فضاءا تشكيليا بكل معنى الكلمة”.

(الصورة في الأعلى: خط لاتيني “معرب” لجوليان بروتون.)

Calligraphie Latine "Arabisante" de Julien Breton

نحن الشرقيون: علاقتنا بفننا

من الطبيعي أن نتفهم أن حس الفنان الغربي يدفعه إلى الإعجاب بالحرف العربي ومن ثم أن يستعمله في أعماله. فكل تبادل هو مطلوب لأنه مثري، شريطة أن لا يكون بمثابة إنكار للأصول والجذور الثقافية. من جهة أخرى نلاحظ بعض التصرفات الغريبة من طرف فنانين عرب يتعاملون مع الحرف كأنه شيء جديد وغريب ظهر في عالمهم الفني، في حين أنهم يمكنهم وبكل سهولة، البحث والتنقيب في تراثهم الثقافي لإيجاد طريقة ما للاشتغال عليه. أكثر من هذا، هناك من يدير ظهره كليا لينخرط انخراطا غير طبيعي في ثقافات أخرى لا صلة لها بثقافته. هذا الإنكار للهوية، والذي يستحق حقيقة كل الانتقاد، غالبا ما يؤدي إلى إنتاج أعمال لا تحمل أي طعم أو ذوق.

إن فن الخط العربي كان ولا زال يعتبر فنا عظيما ينتج أعمالا قمة في الروعة والإبداع. إذن، فلا حاجة إلى البحث عن سبيل لإعطائه حروفا ذهبية من خلال مفاهيم تنتمي إلى ثقافات أخرى. فاليوم، البعض يتساءل عن هذا الميراث: الأول يتجاهله متعمدا، والآخر يقلد دون أن يغير شيئا كأن الخطوط التقليدية محكوم عليها بالجمود وأن تبقى كما هي. هذان التصرفان كلاهما غير مقبول، لأن فن الخط ليس حرفا ميتا، بل هو حي ويجب أن يستمر في التطور، فهو كالعجين في يد الفنان العربي أو المسلم الحالي، وعلى هذا الأخير أن يجعله يستمر في العلو والارتقاء.

كلمة الختام

أصبح فن الخط في أيامنا هذه، الفن الأكثر تجليلا في العالم الإسلامي، لأنه يربط بين الميراث الأدبي للغة العربية والإسلام. النتيجة هي عبارة عن ميراث فني ذو غنى كبير وقمة في الجمالية. إن عالمية هذا الفن تفرض نفسها في الشرق الأقصى والأوسط وأيضا في الغرب، حيث أن انبعاثه من جديد يبدو كنوع من الثأر للكتابة كنا نحسبه صودر. فصار من المعتاد اليوم أن نرى في المعارض، فنانين تشكيليين، ومصورين… إلى جانب فنانين خطاطين.

…لقد استرجع فن الخط دلالته الحقيقية كلغة عالمية.

(في الأعلى: لوحة لحسن المسعود)

Calligraphie de Hassan Massoudy
"Ya-Rahim", par le calligraphe chinois Noor Deen Mi Guanjiang
Timbre U.S. réalisé par le calligraphe américain Mohamed Zakariya
Habillage extérieur d'avion réalisé par Nja Mahdaoui

مصادر:
فن الخط العربي والزخرفة (ع. العاني – محاضرة مايو 1995 – أصدقاء الجامعة)
الخط العربي والتألق العثماني (ف. برنادي – كرونيك – ميموار 2002)
اللوفر يكرم فنون الإسلام (أ. كلونا سيزاري، م. لولو – الإكسبرس 03/11/2005)